فصل: فصـل في أن الرسالة ضرورية لإصلاح العبد في معاشه ومعاده

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فصـل

والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة؛ فإن الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين‏:‏ حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضره‏.‏ والشرع هو النور الذي يبين ما ينفعه وما يضره، والشرع نور الله في أرضه وعدله بين عباده، وحِصْنه الذي من دخله كان آمنًا‏.‏

وليس المراد بالشرع التمييز بين الضار والنافع بالحس؛ فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم؛ فإن الحمار والجمل يميز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضر فاعلها في معاشه ومعاده؛ كنفع الإيمان والتوحيد، والعدل والبر، والتصدق والإحسان، والأمانة والعفة، والشجاعة والحلم، والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام وبر الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل صلى الله عليه وسلم والتوكل عليه، والاستعانة به والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه،/ وخشيته في الغيب والشهادة، والتقوى إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه، واحتساب الثواب عنده، وتصديقه وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته‏.‏

ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف مِنَّةٍ عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبَين لهم الصراط المستقيم‏.‏ ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشر حالاً منها، فمن قبل رسالة الله واستقام عليها فهو من خير البرية، ومن ردها وخرج عنها فهو من شر البرية، وأَسْوَأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم‏.‏

وفي الصحيح من حديث أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غَيْثٍ أصاب أرضـًا، فكانت منها طائفة قَبِلَت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجَادِب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وانتفعوا وزرعـوا، وأصاب طائفة منها أخري إنما هي قِيعَان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ـ تعالى ـ ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به‏)‏ متفق على صحته‏.‏

/ فالحمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا، يتلو علىنا آيات الله ويزكينا، ويعلمنا الكتاب والحكمة، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين‏.‏ وقال أهل الجنة‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ والدنيا كلها ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا دَرَسَتْ آثار الرسل من الأرض وانمحت بالكلية خَرَّبَ الله العالم العلوي والسفلي وأقام القيامة‏.‏

وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهىه، وهم السفراء بينه وبين عباده‏.‏

وكان خاتمهم وسيدهم وأكرمهم على ربه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مُهْدَاة‏)‏، وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏، وقال صلوات الله وسلامه عليه‏:‏ ‏(‏إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب‏)‏ وهذا المقت كان لعدم هدايتهم بالرسل، / فرفع الله عنهم هذا المقت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثه رحمة للعالمين ومَحَجَّة للسالكين، وحجة على الخلائق أجمعين، وافترض على العباد طاعته ومحبته، وتعزيره وتوقيره، والقيام بأداء حقوقه، وسد إليه جميع الطرق، فلم يفتح لأحد إلا من طريقه، وأخذ العهود والمواثيق بالإيمان به واتباعه على جميع الأنبياء والمرسلين، وأمرهم أن يأخذوها على من اتبعهم من المؤمنين‏.‏

أرسـله الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فختم به الرسالة، وهدى به من الضلالة، وعَلَّم به من الجهالة، وفتح برسالته أعينًا عُمْيًا، وآذانًا صُما، وقلوبًا غُلْفًا، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت بها القلوب بعد شتاتها، فأقام بها الملة العوجاء، وأوضح بها المحجة البيضاء، وشرح له صدره، ووضع عنه وِزْرَه، ورفع ذِكْره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، أرسله على حين فَتْرة من الرسل، ودروس من الكتب حين حُرِّف الكلم، وبُدِّلت الشرائع، واستند كل قوم إلى أظلم آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، فهدى الله به الخلائق، وأوضح به الطريق، وأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأبصر به من العمى، وأرشد به من الغي، وجعله قسيم الجنة والنار، وفرق ما بين الأبرار والفجار، وجعل الهدى والفلاح في اتباعه وموافقته،/والضلال والشقاء في معصيته ومخالفته‏.‏

وامتحن به الخلائق في قبورهم، فهم في القبور عنه مسؤولون، وبه ممتحنون، يؤتي العبد في قبره فيقال‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم‏؟‏

فأما المؤمن فيقول‏:‏ أشهد أنه عبد الله، جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه، فيقال له‏:‏ صدقت، على هذا حَيِيت وعليه مِتَّ، وعليه تبعث إن شاء الله، نَمْ نومة العروس، لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، ثم يفسح له في قبره وينور له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة، فيزداد غبطة وسرورًا‏.‏

وأما الكافر والمنافق فيقول‏:‏ لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيقال له‏:‏ قد كنا نعلم ذلك، وعلى ذلك حييت وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يضرب بِمِرْزَبَّةٍ من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان‏.‏

وقد أمر الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثلاثين موضعًا من القرآن، وقَرَن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته، كما قرن بين اسمه واسمه، فلا يذكر الله إلا ذكر معه، قال ابن عباس/ ـ رضي الله عنه ـ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 4‏]‏، قال‏:‏ لا أُذْكَر إلا ذُكِرْتَ معي‏.‏ وهذا كالتشهد والخطب والأذان‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فلا يصح الإسلام إلا بذكره والشهادة له بالرسالة‏.‏

وكذلك لا يصح الأذان إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الصلاة إلا بذكره والشهادة له، ولا تصح الخطبة إلا بذكره والشهادة له‏.‏

وحَذَّر الله ـ سبحانه وتعالى ـ من العذاب والكفر لمن خالفه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ‏:‏ أي فتنة هي‏؟‏ إنما هي الكفر‏.‏

وكذلك ألبس الله ـ سبحانه ـ الذلة والصَّغَار لمن خالف أمره، كما في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏بعثت بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تَشَبَّه بقوم فهو منهم‏)‏‏.‏

/وكما أن من خالفه وشاقه وعاداه هو الشقي الهالك، فكذلك من أعرض عنه وعما جاء به واطمأن إلى غيره ورَضِي به بدلاً منه هو هالك أيضًا‏.‏ فالشقاء والضلال في الإعراض عنه، وفي تكذيبه، والهدى والفلاح في الإقبال على ما جاء به، وتقديمه على كل ما سواه، فالأقسام ثلاثة‏:‏ المؤمن به، وهو المتبع له، المحب له، المقدم له على غيره‏.‏ والمعادي له والمنابذ له‏.‏ والمعرض عما جاء به‏.‏ فالأول هو السعيد، والآخران هما الهالكان‏.‏

فنسأل الله العظيم أن يجعلنا من المتبعين له، المؤمنين به، وأن يحيينا على سنته ويتوفانا عليها، لا يفرق بيننا وبينها، إنه سميع الدعاء وأهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم والوكيل، والحمد صلى الله عليه وسلم رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمهُ الله‏:‏

فَصْـل

في تَوَحُّد الملة وتعدد الشرائع وتنوعها، وتوحد الدين المِلِّي دون الشرعي، وما في ذلك من إقرار ونسخ، وجريان ذلك في أهل الشريعة الواحدة بنوع من الاعتبار، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 124‏]‏، فهذا نص في أنه إمام الناس كلهم، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120‏]‏، وهو القدوة الذي يؤتم به، وهو معلم الخير، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 130 ـ 134‏]‏‏.‏

فقد بين أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ هو سفيه، وأنه أُمِرَ بالإسلام فقال‏:‏ ‏{‏قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏، وأن هذه وصية إلى بنيه، ووصية إسرائيل إلى بنيه، وقد اصطفي آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين‏.‏ثم قال‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 135‏]‏، فأمر باتباع ملة إبراهيم ونهى عن التهود والتنصر، وأمر بالإيمان الجامع كما أنزل على النبيين وما أوتوه والإسلام له، وأن نصبغ بصبغة الله، وأن نكون له عابدين، ورد على من زعم أن إبراهيم وبنيه وإسرائيل وبنيه كانوا هودًا أو نصاري، وقد قال قبل هذا‏:‏ ‏{‏وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 120‏]‏، والمعنى‏:‏ ولن ترضى عنك اليهود حتى تتبع ملتهم، ولا النصارى حتى تتبع ملتهم‏.‏

وقد يستدل بهذا على أن لكل طائفة ملة؛ لقوله تعالى‏:‏/ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏البقـرة‏:‏ 113‏]‏، وقال تعالى في آخر السورة‏:‏ ‏{‏آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ‏}‏ إلى آخر السورة ‏[‏البقرة‏:‏ 285، 286‏]‏، كما قال في أولها‏:‏ ‏{‏والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4‏]‏، ففتحها بالإيمان الجامع، وختمها بالإيمان الجامع، ووسَّطَها بالإيمان الجامع‏.‏ ونبينا صلى الله عليه وسلم أعطي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه‏.‏

وقال ـ تعالى ـ في آل عمران ـ بعد أن قص أمر المسيح ويحيي ـ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏، وهي التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى هِرَقْل عظيم الروم لما دعاهم إلى الإسلام، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، إلى قـوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏، إلى قـولـه‏:‏ ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏56 ـ 83‏]‏ ، فأنكر على من يبغي غير دين الله‏.‏ كما قال في أول السورة‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18، 19‏]‏، فـأخبر أن الدين عنـد الله الإسـلام، وأن الذين اختلفـوا من أهل الكتاب، وصاروا على ملل شَتَّي مـا اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم، وفيه بيان أن الدين واحد لا اختلاف فيه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161، 162‏]‏، هذا بعد أن ذكر الأنبياء فقال‏:‏ ‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏‏.‏

وذكر في النحل دعوة المرسلين جميعهم، واتفاقهم على عبادة الله وحده لا شريك له، فقال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ الآية ‏[‏النحل‏:‏36‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 120 ـ 123‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 34 ـ 37‏]‏‏.‏

وقال في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 25‏]‏، وقـال بعد أن قص قصصهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 29‏]‏، وقال في آخرها‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 108‏]‏، وقال في سورة المؤمنين‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51 ـ 53‏]‏‏.‏

وقال في آخر سورة الحج ـ التي ذكر فيها الملل الست، وذكر ما جعل لهم من المناسك والمعابد، وذكر ملة إبراهيم خصوصًا ـ‏:‏ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 78‏]‏، وقال ‏{‏شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ‏}‏‏[‏البينة‏:‏ 1 ـ 5‏]‏‏.‏

/ وهذا في القرآن مذكور في مواضع كثيرة‏.‏

وكذلك في الأحاديث الصحيحة، مثل ما ترجم عليه البخاري فقال‏:‏ ‏[‏باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد‏]‏ وذكر الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنا معاشر الأنبياء إخوة لِعَلاَّت‏)‏ ، ومثل صفته في التوراة‏:‏ ‏(‏لن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا‏)‏؛ ولهذا وَحَّد الصراط والسبيل في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏‏[‏الفاتحة‏:‏ 6، 7‏]‏، ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏، ومثل قوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏، ‏{‏وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 218‏]‏، وقوله‏:‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏.‏

والإسلام دين جميع المرسلين، قال نوح ـ عليه السلام ـ‏:‏ ‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏، وقال الله عن إبراهيم وبنيه ما تقدم، وقال الله عن السحرة‏:‏ ‏{‏رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 126‏]‏،/ وعن فرعون‏:‏ ‏{‏قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏، وقال الحواريون‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 25‏]‏، وفي السورة الأخري‏:‏ ‏{‏وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏، وقال يوسف الصديق‏:‏ ‏{‏تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 101‏]‏، وقال موسي‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 84‏]‏، وقالت بلقيس‏:‏ ‏{‏رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 44‏]‏، وقال في التوراة‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏

قال شيخ الإسلام‏:‏ وقد قررت في غير هذا الموضع الإسلام العام والخاص، والإيمان العام والخاص، كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وأما تنوع الشرائع وتعددها فقال ـ تعالى ـ لما ذكر القِبلة بعد الملة بقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ إلى قوله‏:‏ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144 ـ 148‏]‏، فأخبر أن لكل أمة وِجْهَة، ولم يقل‏:‏ جعلنا لكل أمة وجهة، بل قد يكون هم ابتدعوها كما ابتدعت النصارى وجهة المشرق، بخلاف ما ذكره في الشرع والمناهج؛ فإنه قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ /‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41 ـ 50‏]‏، وهذه الآيات نزلت بسبب الحكم في الحـدود والقصاص والديات، أخبر أن التورة ‏{‏يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، وهذا عام في النبيين جميعهم والربانيين والأحبار‏.‏

ثم لما ذكر الإنجيل قال‏:‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 47‏]‏، فأمر هؤلاء بالحكم؛ لأن الإنجيل بعض ما في التوراة وأقر الأكثر، والحكم بما أنزل الله فيه حكم بما في التوراة ـ أيضا ـ ثم قال‏:‏ ‏{‏فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، فأمره أن يحكم بما أنزل الله على مَنْ قبله، لكلٍّ جعلنا من الرسولين والكتابين شِرْعَة ومنهاجًا، أي‏:‏ سنة وسبيلاً، فالشِّرْعة الشريعة وهي السنة، والمنهاج الطريق والسبيل‏.‏ وكان هذا بيان وجه تركه لما جعل لغيره من السنة والمنهاج إلى ما جعل له، ثم أمره أن يحكم بينهم بما أنزل الله إليه، فالأول نهى له أن يأخذ بمنهاج غيره وشرعته، والثاني ـ وإن كان حكمًا غير الحكم الذي أنزل ـ نهي له أن يترك شيئًا مما أنزل فيها اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، فمن لم يتبعه لم يحكم بما أنزل الله، وإن لم يكن من أهل الكتاب، الذين أمروا أن يحكموا بما فيها مما يخالف حكمه‏.‏

/وقال تعالى في الحج‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 34‏]‏، ‏{‏لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 67‏]‏، وذكر في أثناء السورة‏:‏ ‏{‏بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 40‏]‏، فبين أنه هو جعل المناسك، وذكر مواضع العبادات، كما ذكر في البقرة الوجهة التي يتوجهون إليها، وقال في سورة الجاثية ـ بعد أن ذكر بني إسرائيل ـ‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏ الآية ‏[‏الجاثية‏:‏ 18‏]‏، وقال في النسخ ووجوب اتباعهم للرسول‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 81‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ‏}‏ الآية والتي بعدها ‏[‏الأعراف‏:‏ 156، 157‏]‏، وقد تقدم ما في البقرة وآل عمران من أمرهم بالإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك في سورة النساء، وهو كثير في القرآن‏.‏

 فَصْــل

قال الله تعالى لنا‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا‏}‏، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102 ـ 110‏]‏‏.‏

فأمرنا بملازمة الإسلام إلى الممات، كما أمر الأنبياء جميعهم بالإسلام، وأن نعتصم بحبله جميعًا ولا نتفرق، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وذكر أنه تَبْيَضُّ وجوه وتَسْوَدُّ وجوه، قال ابن عباس‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفرق، وذكر أنه يقال لهم‏:‏ ‏{‏أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏، وهذا عائد إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ فأمر بملازمة الإسلام، وبين أن المسودة وجوههم أهل التفرق والاختلاف، يقال لهم‏:‏ أكفرتم بعد إيمانكم‏؟‏ وهذا دليل على كفرهم وارتدادهم، وقد تأولها الصحابة في الخوارج‏.‏

وهذا نظير قوله للرسل‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 31‏]‏، وقد قال في البقرة‏:‏ ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏، وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 159‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 53‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 105‏]‏، ‏{‏مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏، ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏ الآية ‏[‏البينة‏:‏ 4‏]‏، ونظيرها في الجاثية‏.‏

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 10‏]‏‏.‏

 فَصْــل

إذا كان الله ـ تعالى ـ قد أمرنا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منا، وأمرنا عند التنازع في شيء أن نرده إلى الله وإلى رسوله، وأمرنا بالاجتماع والائتلاف، ونهانا عن التفرق والاختلاف، وأمرنا /أن نستغفر لمن سبقنا بالإيمان، وسمانا المسلمين، وأمرنا أن ندوم عليه إلى الممات‏.‏ فهذه النصوص وما كان في معناها توجب علىنا الاجتماع في الدين؛ كاجتماع الأنبياء قبلنا في الدين، وولاة الأمور فينا هم خلفاء الرسول، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء، كلما هلك نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء ويكثرون‏)‏، قالوا‏:‏ فما تأمرنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أوفوا بيعة الأول فالأول، وأدوا لهم الذي لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم‏)‏، وقال ـ أيضًا ـ‏:‏ ‏(‏العلماء ورثة الأنبياء‏)‏، ورُوِي عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏وَدِدْت أني قد رأيت خلفائي‏)‏ قالوا‏:‏ ومن خلفاؤك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الذين يحيون سنتي يعلّمونها الناس‏)‏، فهؤلاء هم ولاة الأمر بعده وهم الأمراء والعلماء، وبذلك فسرها السلف ومن تبعهم من الأئمة؛ كالإمام أحمد وغيره، وهو ظاهر قد قررناه في غير هذا الموضع‏.‏

فالأصول الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع هي بمنزلة الدين المشترك بين الأنبياء، ليس لأحد خروج عنها، ومن دخل فيها كان من أهل الإسلام المحض، وهم أهل السنة والجماعة، وما تنوعوا فيه من الأعمال والأقوال المشروعة فهو بمنزلة ما تنوعت فيه الأنبياء، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏69‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15، 16‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 208‏]‏، والتنوع قد يكون في الوجوب تارة وفي الاستحباب أخري‏.‏

فالأول مثل ما يجب على قَوْمٍ الجهاد، وعلى قوم الزكاة، وعلى قوم تعلىم العلم، وهذا يقع في فروض الأعيان، وفي فروض الكفايات‏.‏ ففروض الأعيان مثل ما يجب على كل رجل إقامة الجماعة والجمعة في مكانه مع أهل بقعته، ويجب عليه زكاة نوع ماله بصرفه إلى مستحقه لجيران ماله، ويجب عليه استقبال الكعبة من ناحيته، والحج إلى بيت الله من طريقه، ويجب عليه بر والديه وصلته ذوي رحمه، والإحسان إلى جيرانه وأصحابه ومماليكه ورعيته، ونحو ذلك من الأمور التي تتنوع فيها أعيان الوجوب وإن اشتركت الأمة في جنس الوجوب، وتارة تتنوع بالقدرة والعجز، كتنوع صلاة المقيم والمسافر، والصحيح والمريض، والآمن والخائف‏.‏

وفروض الكفايات تتنوع تنوع فروض الأعيان، ولها تنوع يخصها؛ وهو أنها تتعين على من لم يقم بها غيره، فقد تتعين في وقت ومكان، وعلى شخص أو طائفة، وفي وقت آخر أو مكان آخر على شخص آخر أو طائفة أخري، كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهاد والفُتْيَا والقضاء، وغير ذلك‏.‏

/ وأما في الاستحباب فهو أبلغ؛ فإن كل تنوع يقع في الوجوب فإنه يقع مثله في المستحب، ويزداد المستحب بأن كل شخص إنما يستحب له من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله ـ تعالى ـ التي يقول الله فيها‏:‏ ‏(‏وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه‏)‏ ما يقدر عليه ويفعله وينتفع به، والأفضل له من الأعمال ما كان أنفع له، وهذا يتنوع تنوعًا عظيمًا، فأكثر الخلق يكون المستحب له ما ليس هو الأفضل مطلقًا؛ إذ أكثرهم لا يقدرون على الأفضل، ولا يصبرون عليه إذا قدروا عليه، وقد لا ينتفعون به، بل قد يتضررون إذا طلبوه، مثل من لا يمكنه فهم العلم الدقيق إذا طلب ذلك، فإنه قد يفسد عقله ودينه، أو من لا يمكنه الصبر على مرارة الفقر ولا يمكنه الصبر على حلاوة الغني، أو لا يقدر على دفع فتنة الولاية عن نفسه والصبر على حقوقها‏.‏

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ـ عز وجل ـ‏:‏ ‏(‏إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ذلك‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر ـ لما سأله الإمارة ـ‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأَمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مال يتيم‏)‏‏.‏ وروي عنه أنه قال للعباس ـ عمه ـ‏:‏ ‏(‏نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها‏)‏؛ ولهذا إذا قلنا‏:‏ هذا العمل أفضل، فهذا قول مطلق‏.‏

/ ثم المفضول يكون أفضل في مكانه ويكون أفضل لمن لا يصلح له الأفضل، مثال ذلك‏:‏ أن قراءة القرآن أفضل من الذكر بالنص والإجماع والاعتبار‏.‏

أما النص، فقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الكلام بعد القرآن أربع ـ وهن من القرآن ـ‏:‏ سبحان الله، والحمد صلى الله عليه وسلم، ولا إله إلا الله، والله أكبر‏)‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه‏)‏، وقوله عن الله‏:‏ ‏(‏من شغله قراءة القرآن عن ذكري ومسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه‏)‏، وقول الأعرابي له‏:‏ إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلمني ما يجزيني في صلاتي، فقال‏:‏ ‏(‏قل‏:‏ سبحان الله والحمد صلى الله عليه وسلم ولا إله إلا الله والله أكبر‏)‏‏.‏

وأما الإجماع على ذلك فقد حكاه طائفة، ولا عبرة بخلاف جهال المتعبدة‏.‏

وأما الاعتبار، فإن الصلاة تجب فيها القراءة، فإن عجز عنها انتقل إلى الذكر ولا يجزيه الذكر مع القدرة على القراءة، والمبدل منه أفضل من البدل الذي لا يجوز إلا عند العجز عن المبدل‏.‏

/ وأيضًا، فالقراءة تشترط لها الطهارة الكبري كما تشترط للصلاة الطهارتان، والذكر لا يشترط له الكبري ولا الصغري، فعلم أن أعلى أنواع ذكر الله هو الصلاة، ثم القراءة، ثم الذكر المطلق، ثم الذكر في الركوع والسجود أفضل بالنص والإجماع من قراءة القرآن، وكذلك كثير من العباد قد ينتفع بالذكر في الابتداء ما لا ينتفع بالقراءة؛ إذ الذكر يعطيه إيمانًا والقرآن يعطيه العلم، وقد لا يفهمه، ويكون إلى الإيمان أحوج منه لكونه في الابتداء، والقرآن مع الفهم لأهل الإيمان أفضل بالاتفاق‏.‏

فهذا وأمثاله يشبه تنوع شرائع الأنبياء؛ فإنهم متفقون على أن الله أمر كلاً منهم بالدين الجامع، وأن نعبده بتلك الشرعة والمنهاج، كما أن الأمة الإسلامية متفقة على أن الله أمر كل مسلم من شريعة القرآن بما هو مأمور به؛ إما إيجابًا، وإما استحبابًا، وإن تنوعت الأفعال في حق أصناف الأمة فلم يختلف اعتقادهم ولا معبودهم، ولا أخطأ أحد منهم، بل كلهم متفقون على ذلك يصدق بعضهم بعضًا‏.‏

/ فَصْــل

وأما ما يشبه ذلك من وجه دون وجه، فهو ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه، وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك؛ كاجتهاد الصحابة في قطع اللِّينَة وتركها، واجتهادهم في صلاة العصر، لما بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فصلى قوم في الطريق في الوقت، وقالوا‏:‏ إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة‏.‏ وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكًا بظاهر لفظ العموم، فلم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏‏.‏

وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم؛ كمسائل في العبادات والمناكح، والمواريث والعطاء، والسياسة، وغير ذلك، وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك، وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولي، ولما سئل عن ذلك قال‏:‏ تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي‏.‏/وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم‏.‏

وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية؛ كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه قبل الموت، مع بقاء الجماعة والألفة‏.‏

وهذه المسائل منها ما أحد القولين خطأ قطعًا، ومنها ما المصيب في نفس الأمر واحد عند الجمهور اتباع السلف، والآخر مؤد لما وجب عليه بحسب قوة إدراكه، وهل يقال له‏:‏ مصيب أو مخطئ‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ ومن الناس من يجعل الجميع مصيبين، ولا حكم في نفس الأمر‏.‏

ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد، وإن أخطأ، فهذا النوع يشبه النوع الأول من وجه دون وجه، أما وجه المخالفة؛ فلأن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ معصومون عن الإقرار على الخطأ، بخلاف الواحد من العلماء والأمراء؛ فإنه ليس معصومًا من ذلك؛ ولهـذا يسـوغ، بل يجب أن نبين الحق الذي يجب اتباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمـراء، وأما الأنبياء فلا يبين أحدهما ما يظهر به خطأ الآخر، وأما المشابهة فـلأن كـلا مأمـور باتباع مـا بَانَ لـه مـن الحـق بالدليل الشرعي؛ كأمـر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع مـا أوحي إليه، / وليس لأحدهما أن يوجب على الآخر طاعته، كما ليس ذلك لأحد النبيين مع الآخر‏.‏ وقد يظهر له من الدليل ما كان خافيًا عليه فيكون انتقاله بالاجتهاد عن الاجتهاد، ويشبه النسخ في حق النبي، لكن هذا رَفْعٌ للاعتقاد، وذاك رفع للحكم حقيقة، وعلى الأَتْبَاع اتِّبَاع مـن وَلِي أمرهم من الأمراء والعلماء فيما ساغ له اتباعه وأمر فيه باتباع اجتهاده، كما على الأمة اتباع أي نبي بعث إليهم وإن خالف شرعه شرع الأول، لكن تنوع الشرع لهؤلاء وانتقاله لم يكن لتنوع نفس الأمر النازل على الرسول، ولكن تنوع أحوالهم، وهو إدراك هذا لما بلغه من الوحي سمعًا وعقلاً،وعجز الآخر عن إدراك ذلك البلاغ؛ إما سمعًا لعدم تمكنه من سماع ذلك النص، وإما عقلاً لعدم فهمه لما فهمه الأول من النص، وإذا كان عاجزًا سقط عنه الإثم فيما عجز عنه، وقد يتبين لأحدهما عجز الآخر وخطؤه وتعذره في ذلك، وقد لا يتبين له عجزه، وقد لا يتبين لكل منهما أيهما الذي أدرك الحق وأصابه‏.‏

ولهذا امتنع من امتنع من تسمية مثل هذا خطأ، قال‏:‏ لأن التكليف مشروط بالقدرة، فما عجز عنه من العلم لم يكن حكم الله في حقه، فلا يقال‏:‏ أخطأه‏.‏

وأما الجمهور فيقولون‏:‏ أخطأه، كما دلت عليه السنة والإجماع، لَكِنْ خطؤه معذور فيه، وهو معني قوله‏:‏ عجز عن إدراكه وعلمه، لكن / هذا لا يمنع أن يكون ذاك هو مراد الله ومأموره‏.‏ فإن عجز الإنسان عن فهم كلام العالم لا يمنع أن يكون قد أراد بكلامه ذلك المعنى، وأن يكون الذي فهمه هو المصيب الذي له أجران‏.‏

ولهذا تنازع أصحابنا فيمن لم يُصِبِ الحكم الباطن، هل يقال‏:‏ إنه مصيب في الظاهر؛ لكونه أدي الواجب المقدور عليه من اجتهاده واقتصاره‏؟‏ أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال، وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق‏؟‏ على قولين، هما روايتان عن أحمد؛ وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق، وهل اجتهد الاجتهاد المأمور به‏؟‏ التحقيق أنه اجتهد الاجتهاد المقدور عليه، فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيبًا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق‏.‏

يوضح ذلك أن السلطان نوعان‏:‏ سلطان الحجة والعلم، وهو أكثر ما سمي في القرآن سلطانًا، حتى روي عن ابن عباس أن كل سلطان في القرآن فهو الحجة‏.‏ والثاني‏:‏ سلطان القدرة‏.‏ والعمل الصالح لا يقوم إلا بالسلطانين؛ فإذا ضعف سلطان الحجة كان الأمر بقدره، وإذا ضعف سلطان القدرة كان الأمر بحسبه،والأمر مشروط بالقدرة على السلطانين، فالإثم ينتفي عن الأمر بالعجز عن كل منهما‏.‏وسلطان الله في العلم هو الرسالة، وهو حجة الله على خلقه، كما قال تعالى‏:‏ /‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 35‏]‏، ونظائره متعددة‏.‏

فالمـذاهب والطـرائق والسياسـات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء؛ ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة ـ بحسب الإمكان ـ بعد الاجتهاد التام ـ هي لهم مـن بعض الوجوه بمنزلة الشِّرَع والمناهج للأنبياء، وهم مثابون على ابتغائهم وجـه الله وعبادتـه وحـده لا شريك له، وهو الدين الأصلى الجامع، كما يثاب الأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له، ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به لا من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه‏.‏

ويتنوع شرعهم ومناهجهم، مثل أن يبلغ أحدهم الأحاديث بألفاظ غير الألفاظ التي بلغت الآخر، وتفسر له بعض آيات القرآن بتفسير يخالف لفظه لفظ التفسير الآخر، ويتصرف في الجمع بين النصوص واستخراج الأحكام منها بنوع من الترتيب والتوفيق، ليس هو النوع / الذي سلكه غيره، وكذلك في عباداته وتوجهاته، وقد يتمسك هذا بآية أو حديث وهذا بحديث أو آية أخرى‏.‏

وكذلك في العلم، من العلماء من يسلك بالاتباع طريقة ذلك العالم، فتكون هي شـرعهم حتى يسمعـوا كـلام غـيره، ويروا طريقته، فيرجح الراجح منهما، فتتنوع في حقهم الأقوال والأفعال السالفة لهم من هذا الوجه، وهم مأمورون بأن يقيموا الدين ولا يتفرقوا فيه كما أمرت الرسل بذلك، ومأمورون بألا يفرقوا بين الأمة، بل هي أمة واحدة، كما أمرت الرسل بذلك، وهؤلاء آكد، فإن هؤلاء تجمعهم الشريعة الواحدة والكتاب الواحد‏.‏

وأما القدر الذي تنازعوا فيه فلا يقال‏:‏ إن الله أمر كلاًّ منهم باطنًا وظاهرًا بالتمسك بما هو عليه كما أمر بذلك الأنبياء، وإن كان هذا قول طائفة من أهل الكلام، فإنما يقال‏:‏ إن الله أمر كلاًّ منهم أن يطلب الحق بقدر وُسْعِه وإمكانه، فإن أصابه وإلا فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وقد قال المؤمنون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وقال الله‏:‏ قد فعلت‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5‏]‏، فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدي، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قول المعصوم وفعله، وينتصر لها بغير هدى من الله فقد اعتدي، واتبع هواه بغير هدى / من الله، ومن فعل ما أمر به بحسب حاله؛ من اجتهاد يقدر عليه، أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد، وسلك في تقليده مسلك العدل، فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، فعلى المسلم في كل موطن أن يسلم وجهه صلى الله عليه وسلم وهو محسن، ويدوم على هذا الإسلام، فإسلام وجهه إخلاصه صلى الله عليه وسلم وإحسان فعله الحسن‏.‏ فتدبر هذا فإنه أصل جامع نافع عظيم‏.‏

/ وقال شيخ الإسلام‏:‏

هذه قاعدة عظيمة جامعة متشعبة‏.‏ وللناس في تفاصيلها اضطراب عظيم، حتى منهم من صار في طرفي نقيض في كلا نوعي الأحكام العلمية، والأحكام العينية النظرية، وذلك أن كل واحد من العلوم والاعتقادات والأحكام والكلمات، بل والمحبة والإرادات؛ إما أن يكون تابعًا لمتعلقه مطابقًا له، وإما أن يكون متبوعه تابعًا له مطابقًا له‏.‏

ولهذا انقسمت الحق والحقائق والكلمات إلى‏:‏ موجود ومقصود، إلى كوني وديني، إلى قدري وشرعي، كما قد بينته في غير هذا الموضع، وقد تنازع النظار في العلم‏:‏ هل هو تابع للمعلوم غير مؤثر فيه‏؟‏ بل هو انفعإلى كما يقوله كثير من أهل الكلام‏؟‏ أو المعلوم تابع له والعلم مؤثر فيه وهو فعلى كما يقوله كثير من أهل الفلسفة‏؟‏

والصواب أن العلم نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ تابع، والثاني‏:‏ متبوع‏.‏ والوصفان يجتمعان في العلم غالبًا أو دائمًا، فعلمنا بما لا يفتقر إلى علمنا كعلمنا بوجود السموات والأرض، وكذلك علمنا بالله وأسمائه وصفاته، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والنبيين، وغير ذلك ـ /علم تابع انفعإلى‏.‏ وعلمنا بما يقف على علمنا مثل ما نريده من أفعالنا علم فعلى متبوع، وهو سبب لوجود المعلوم‏.‏ وكذلك علم الله بنفسه المقدسة تابع غير مؤثر فيها، وأما علمه بمخلوقاته فهو متبوع وبه خلق الله الخلق، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 14‏]‏، فإن الإرادة مستلزمة للعلم في كل مريد، كما أن هذه الصفات مستلزمة للحياة، فلا إرادة إلا بعلم، ولا إرادة وعلم إلا بحياة، وقد يجوز أن يقال‏:‏ كله علم، فهو تابع للمعلوم مطابق؛ سواء كان سببًا في وجود المعلوم، أو لم يكن، فيكون إطلاق المتكلمين أحسن وأصوب من إطلاق المتفلسفة‏:‏ أن كل علم فهو فعلى متبوع‏.‏

وما أظن العقلاء من الفريقين إلا يقصدون معني صحيحًا، وهو أن يشيروا إلى ما تصوروه، فينظر هؤلاء في أن العلم تابع لمعلومه مطابق له، ويشير هؤلاء إلى ما في حسن العلم في الجملة، من أنه قد يؤثر في المعلوم وغيره ويكون سببًا له، وأن وجود الكائنات كان بعلم الله وعلم الإنسان بما هو حق أو باطل، وهدى أو ضلال، ورشاد أو غَي، وصدق أو كذب، وصلاح أو فساد من اعتقاداته وإراداته، وأقواله وأعماله، ونحو ذلك يجتمع فيه الوصفان، بل غالب العلم أو كله يجتمع فيه الأمران‏.‏

ولهذا كان الإيمان قولاً وعملاً قول القلب وعمله، وقول الجسد /وعمله، فإنه من عرف الله أحبه، فعمله بالله تابع للمعلوم ومتبوع لحبه صلى الله عليه وسلم، ومن عرف الشيطان أبغضه، فمعرفته به تابعة للمعلوم ومتبوعة لبغضه، وكذلك عامة العلم لابد أن يتبعه أثر ما في العالم من حب أو غيره، حتى علم الرب ـ سبحانه ـ بنفسه المقدسة يتبعه صفات وكلمات وأفعال متعلقة بنفسه المقدسة، فما من علم إلا ويتبعه حال ما،وعمل ما،فيكون متبوعًا مؤثرًا فاعلاً بهذا الاعتبار، وما من علم إلا وهو مطابق لمعلومه موافق له؛ سواء كان المعلوم مستغنيًا عنه، أو كان وجود المعلوم بوجوده، فيكون تابعًا منفعلاً مطابقًا بهذا الاعتبار، لكن كل علم، وإن كان له تأثير، فلا يجب أن يكون تأثيره في معلومه، فإن من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فأحب الله وملائكته وأنبياءه والجنة، وأبغض النار لم يكن علمه بذلك مؤثرًا في المعلوم، وإنما أثر في محبة المعلوم وإرادته، أو في بغضه وكراهته لذلك‏.‏

وإن كان كل علم فإنه مطابق للمعلوم، لكن قد يكون ثبوت المعلوم في ذهن العالم وتصوره قبل وجوده في الخارج،كتصور الإنسان لأقواله وأعماله، وقد يكون وجوده في الخارج قبل تصور الإنسان له وعلمه،أو بدون تصور الإنسان له،فلهذا التفريق حصل التقسيم الذي قدمناه،من أنه ينقسم إلى‏:‏ مؤثر في المعلوم، وغير مؤثر فيه، وإلى‏:‏تابع للمعلوم، وغير تابع له، وإن كان كل علم فإن له أثرًا في نفس العالم، وإن كان / كل علم فإنه تابع تبع المطابقة والموافقة، وإن لم يكن بعضه تابعًا تبع التأخر والتأثر والافتقار والتعلل‏.‏

فهذه مقدمة جامعة نافعة جدًا في أمور كثيرة‏.‏ إذا تبين هذا في جنس العلم ظهر ذلك في الاعتقاد والرأي والظن، ونحو ذلك الذي قد يكون علمًا، وقد لا يكون علمًا، بل يكون اعتقادًا صحيحًا، أو غير صحيح، أو ظنًا صحيحًا، أو غير صحيح، أو غير ذلك من أنواع الشعور والإحساس والإدراك؛ فإن هذا الجنس هو الأصل في الحركات والأفعال الروحانية والجسمانية ما كان من جنس الحب والبغض، وغير ذلك، وما كان من جنس القيام والقعود وغير ذلك، فإن جميع ذلك تابع للشعور مفتقر إليه مسبوق به، والعلم أصل العمل مطلقًا وإن كان قد يكون فرعًا لعلوم غير العمل ـ كما تقدم‏.‏

فالاعتقاد؛ تارة يكون فرعًا للمعتقد تابعًا له، كاعتقاد الأمور الخارجة عن كسب العبد، كاعتقاد المؤمنين والكفار في الله ـ تعالى ـ وفي اليوم الآخر، وقد يكون أصلاً للمعتقد متبوعًا له؛ كاعتقاد المعتقد وظنه أن هذا العمل يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة؛ إما في الدنيا، وإما في الآخرة، مثل اعتقاده أن أكل هذا الطعام يشبعه، وأن تناول هذا السم يقتله، وأن هذه الرَّمْيَة تصيب هذا الغرض، وهذه الضربة تقطع هذا العُنُق، وهذا البيع والتجارة يورثه ربحًا أو خسارة، وأن /صلاته وزكاته وحجه وبره وصدقه، ونحو ذلك من الأعمال الصالحة يورثه السعادة في الدنيا والآخرة، وأن كفره وفسوقه وعصيانه يورثه الشقاوة في الدنيا والآخرة‏.‏

وهذا باب واسع تدخل فيه الديانات والسياسات وسائر الأعمال الدينية والدنيوية، ويشترك فيه الدين الصحيح والفاسد‏.‏ لكن هذا الاعتقاد العملي لابد أن يتعلق ـ أيضًا ـ بأمور غير العمل، فإن اعتقاده أن هذا العمل ينفعه في الدنيا والآخرة، أو يضره يتعلق ـ أيضًا ـ بصفات ثابتة الأعيان لا يتعلق باعتقاده، كما أن الاعتقاد النظري، وإن كان معتقده غير العمل، فإنه يتبعه عمل، كما تقدم أن كلاًّ من الاعتقادين تابع متبوع‏.‏

والأحكام ـ أيضًا ـ من جنس الاعتقادات، فإنه ـ أيضًا ـ ينقسم قسمين‏:‏ أحكام عينية تابعة للمحكوم فيه؛ كالحكم بما يستحقه الله ـ تعالى ـ من الحمد والثناء، وما يتقدس عنه من الفقر والشركاء‏.‏ وأحكام عملية يتبعها المحكوم فيه؛ كالحكم بأن هذا العمل حسن أو قبيح، صالح أو فاسد، خير أو شر، نافع أو ضار، واجب أو محرم، مأمور به أو منهى عنه، رشاد أو غَي، عدل أو ظلم‏.‏

وكذلك الكلمات فإنها تنقسم إلى‏:‏ خبرية وإنشائية، فالكلمات الخبرية / تطابق المخبر عنه وتتبعه، وهي موافقة للعلم التابع والاعتقاد التابع والحكم التابع‏.‏ والكلمات الإنشائية مثل الأمر والنهي والإباحة، تستتبع المتكلم فيه المأمور به والمنهى عنه والمباح، وتكون سببًا في وجوده أو عدمه؛ كالعلم المتبوع والاعتقاد المتبوع، وهو الحكم العملي‏.‏

إذا عرف هذان النوعان، فمن الناس من يسمي العلم والاعتقاد والحكم والقول الخبري التابع‏:‏ علم الأصول، وأصول الدين، أو علم الكلام، أو الفقه الأكبر، ونحو ذلك من الأسماء المتقاربة، وإن اختلفت فيها المقاصد والاصطلاحات‏.‏ ويسمي النوع الآخر‏:‏ علم الفروع، وفروع الدين، وعلم الفقه والشريعة، ونحو ذلك من الأسماء‏.‏ وهذا اصطلاح كثير من المتفقهة والمتكلمة المتأخرين‏.‏

ومن الناس من يجعل أصول الدين اسمًا لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير؛ سواء كان علميًا أو عمليًا، سواء كان من القسم الأول أو الآخر، حتى يجعل عبادة الله وحده ومحبته وخشيته، ونحو ذلك من أصول الدين، وقد يجعل بعض الأمور الاعتقادية الخبرية من فروعه، ويجعل اسم الشريعة ينتظم العقائد والأعمال، ونحو ذلك، وهذا اصطلاح غلب على أهل الحديث والتصوف، وعليه أئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام‏.‏